رياض الأكوع
لا يمكن إنقاذ وطن، أو وقف نزيف اقتصادي، أو ترميم مؤسسات دولة، في ظل تغييب ممنهج للسلطة التشريعية، ومحاولات واضحة لإضعاف البرلمان، الجهة الوحيدة التي تملك الشرعية الدستورية لمساءلة الحكومة، ومحاسبة الفساد، وتصويب الاعوجاج.
لقد مثّل البيان الصادر عن مجلس النواب في اجتماعه المنعقد يومي 23 و24 يوليو 2025 نقطة فاصلة بين مرحلتين:
مرحلة الصمت والمجاملات،
ومرحلة المكاشفة وتحمل المسؤولية.
لم يعد مقبولًا أن تتصرف الحكومات والسلطات المحلية وكأنها فوق المساءلة، أو أن تُمنع لجان البرلمان من أداء مهامها، كما جرى في حضرموت، وكأن هناك من يخشى الحقيقة ويخاف من وصول الصوت الشعبي إلى حيث يتم نهب الإيرادات وتضييع المال العام.
في أبريل 2022، تم نقل السلطة من الرئيس عبدربه منصور هادي إلى مجلس القيادة الرئاسي، وأدى أعضاؤه اليمين الدستورية أمام مجلس النواب في العاصمة المؤقتة عدن. وهذا بحد ذاته تأكيد أن البرلمان هو المرجعية العليا، وهو من يمنح الشرعية لا العكس. لكن ما نراه اليوم هو تنصّل واضح عن هذه الحقيقة، ومحاولات لتفريغ الدولة من مضمونها، وتحويلها إلى كيانات هامشية تُدار من خلف الستار.
إن ما يواجهه مجلس النواب اليوم من عراقيل لا يأتي فقط من تقصير هنا أو هناك، بل يبدو أن هناك مشروعًا أوسع، لا يروق له أن تعمل مؤسسات الدولة، ولا يريد أن يرى برلمانًا فاعلًا، أو حكومة تخضع للمساءلة، أو رقابة مالية تمنع تسرب الموارد. مشروع يغذي الفوضى، ويزدهر في بيئة الغياب المؤسسي، ويستفيد من ضعف الدولة المركزية، لأنه يتغذى على الانقسام والفراغ، ويُدار بعقلية لا تؤمن بالشفافية ولا بالدستور.
لقد أشرتُ في مقال سابق بعنوان "لماذا أحجمت السعودية؟" إلى أن غياب الإصلاحات، واستمرار الشخصيات الفاسدة، وغياب الرقابة التشريعية الحقيقية، كانت من الأسباب المباشرة لإحجام الأشقاء والداعمين عن تقديم أي دعم اقتصادي جديد. لا أحد يمكنه بناء دولة بديلة في ظل حكومة بلا رؤية، وبرلمان معطل، وموارد تُستنزف خارج القانون.
نحن نعرف أن بعض الجهات، داخل البلاد وخارجها، لا تريد برلمانًا قويًا، لأن ذلك يعني تقويض النفوذ غير المشروع، وكشف شبكات الاستحواذ على القرار السياسي والمالي. إنها بيئات تحاكي نموذجًا معروفًا في المنطقة، حيث يتم تقويض الدولة من الداخل، عبر أدوات محلية تُدير مصالح قوى لا ترى في اليمن سوى ساحة نفوذ، لا وطنًا مستقلًا.
وبينما تتكثف الضغوط الإقليمية والدولية لإنقاذ الاقتصاد اليمني من الانهيار، فإن الجهات التي تُعيق البرلمان اليوم، هي ذاتها التي ساهمت في خلق اقتصادٍ موازٍ تغذيه السوق السوداء، ويُدار بعيدًا عن البنك المركزي، في تناغم عجيب مع مصالح أطراف غير يمنية، اعتادت الاستفادة من الفوضى، ومن غياب الشفافية، وتغييب مؤسسات الدولة.
بصفتي محاسبًا وخبيرًا اقتصاديًا، فإنني أنظر إلى البيان الصادر عن مجلس النواب بوصفه وثيقة إنقاذ وطني، تمثل أول محاولة جادة لإعادة ضبط البوصلة في مواجهة الانهيار المالي والنقدي، وتوقف الخدمات، وتآكل الرواتب، وغياب الشفافية، وتسرب الموارد إلى جيوب غير شرعية.
لا يمكن للاقتصاد أن يستقر، ولا للعملة أن تتماسك، ما لم تكن هناك رقابة حقيقية من مؤسسة دستورية. ولا يمكن مواجهة الفساد إذا كان مجلس النواب نفسه يُمنع من الوصول إلى المحافظات، أو يُتهدد بالعنف، كما حصل في حضرموت. ولا يمكن أن نقبل أن تكون العاصمة المؤقتة عدن تحت سلطة حكومة لا تجرؤ على تقديم برنامجها ولا ميزانيتها، ولا تملك رؤية واضحة لإنقاذ البلاد.
لقد حذّر البيان من هذا الانفلات، وسمّى الأشياء بأسمائها، وطالب رئيس الحكومة بالوفاء بتعهداته، التي ظلّ يطلقها في الغرف المغلقة وعبر الوسطاء والدبلوماسيين، دون أن يُترجم منها شيء على أرض الواقع.
ما نواجهه اليوم ليس خلافًا إداريًا، بل أزمة نظام، تتطلب إصلاحًا حقيقيًا يبدأ من عودة البرلمان إلى العمل، وتمكينه من الانعقاد بشكل دائم في العاصمة المؤقتة عدن، ومحاكمة كل من يعرقل دوره، وتقديم برنامج حكومي حقيقي يخضع للمحاسبة.
وهنا نستعيد كلمات الزعيم الشهيد علي عبدالله صالح في ديسمبر 2017، عندما وقف في وجه مشروع الفوضى الذي كان يزحف على الدولة من الداخل:
> "لن نسمح لأحد أن يعبث بمكتسبات هذا الشعب."
ونستعيد أيضًا كلمته عند توقيع المبادرة الخليجية عام 2011، حين قال:
> "ننقل السلطة من أجل الوطن، لا من أجل المغانم."
بين ذلك الخطاب وهذا البيان، رابط واحد: الوطن أولًا، والدستور هو الحكم، والبرلمان هو ميزان الدولة.
لذلك، فإن دعم مجلس النواب ليس موقفًا سياسيًا، بل واجب وطني وأخلاقي، وعلى مجلس القيادة الرئاسي أن يلتزم بما بدأه، ويأمر بتمكين المجلس من ممارسة دوره فورًا، دون تأجيل أو مماطلة.
وإذا لم يحدث ذلك، فإن الكارثة ليست احتمالًا، بل نتيجة حتمية لمسار لا يعترف بالدستور ولا يحترم مؤسسات الدولة، ويفتح الأبواب أمام مشاريع اختراق خارجي ناعمة، تتسلل من بين ثنايا الضعف والانقسام، عبر أدوات محلية فقدت بوصلتها الوطنية، وتحولت إلى أذرع تمارس التعطيل باسم الشراكة، وتحكم من خلف الستار لصالح مراكز نفوذ تتقاطع مصالحها مع أجندات تتغذى من طهران إلى الضاحية.
لا حل لأزمات اليمن دون برلمان فاعل. ولا مخرج من الانهيار دون رقابة مالية وتشريعية تضع الجميع أمام مسؤولياتهم. ولا مستقبل لدولة يُهمّش فيها الدستور وتُحتقر فيها السلطة التي تمثل الشعب.
كاتب، محاسب، خبير اقتصادي