أسامة عفيف
منذ انقلابها على الدولة اليمنية، في أيلول/ سبتمبر 2014، لم تكتفِ جماعة “الحوثي” بتفكيك مؤسسات الدولة، بل شرعت في هندسة اقتصاد موازٍ خاص بها، يقوم على النهب والتجريف، ويصب عوائده في جيوب قادة الجماعة، ونواتها الصلبة من السلالة الهاشمية، في واحدة من أكثر عمليات الإثراء غير المشروع وقاحة وتخريباً للاقتصاد الوطني، في التاريخ الحديث.
وبعيدا عن الاقتصاد الرسمي المنهك، أنشأت جماعة “الحوثي” منظومة اقتصادية متكاملة، لا تخضع لأي رقابة، ولا تستفيد منها مؤسسات الدولة، أو المواطن اليمني، بل تحولت إلى شبكة مالية مغلقة، تموّل حرب الجماعة، وتثري مشرفيها، على حساب ملايين اليمنيين، الذين يعيشون واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية حول العالم.
بداية الكارثة من البنك المركزي
وكانت أولى خطوات تحويل الاقتصاد اليمني إلى غنيمة حرب، نقل جماعة “الحوثي” الصراع إلى القطاع المالي، بدءاً من السيطرة على البنك المركزي في صنعاء، ووقف صرف مرتبات الموظفين، منذ أيلول/ سبتمبر 2016، رغم استحواذها على أكثر من 80 في المئة من إيرادات الدولة.
حيث استولت جماعة “الحوثي” على الاحتياطي النقدي الأجنبي المقدر حينها بنحو 5 مليارات دولار، بما في ذلك الوديعة السعودية، وخصصت هذه الأموال لتمويل جبهات القتال، مع حرمان أكثر من مليون موظف حكومي من مرتباتهم.
وبين ليلة وضحاها، سطت جماعة “الحوثي” على أذون الخزانة وأرصدة صناديق التقاعد والتأمينات والضمان الاجتماعي، والتي تتجاوز 2 تريليون ريال يمني، لتتحول هذه الأموال التي تعود لعقود من ادخار المواطنين، إلى وقود لحربها ضد اليمنيين.
وفي هذا الشأن، يوضح الخبير الاقتصادي، وفيق صالح، في تصريح خاص لـ”الحل نت”، بأن جماعة “الحوثي” سعت منذ سيطرتها على صنعاء، بشكل منهجي للاستحواذ على مفاصل الاقتصاد الوطني، خصوصاً القطاعات التي تدرّ عوائد ضخمة، لتأمين التمويل الدائم لحربها، وبسط سيطرتها على الحياة العامة.
الكشف عن الدول التي دعمت “الحوثي” لطباعة الأوراق النقدية
ويؤكد صالح، بأن الحرب وفّرت للجماعة غطاء مثاليا للاستيلاء على الموارد العامة، وإعادة هيكلة الاقتصاد، على أسس تتماشى مع أهدافها العسكرية والطائفية، حيث أسّست “منظومة اقتصادية موازية” تتجاوز مؤسسات الدولة في النفوذ والعائدات.
جبايات منظمة يمارسها “الحوثي”
واعتمدت جماعة “الحوثي” منذ سيطرتها على العاصمة صنعاء، على فرض شبكة جبايات غير قانونية، تحت مسميات متعددة، ضرائب ورسوم مضاعفة، إتاوات موسمية، تبرعات قسرية، زكاة، وخُمس، لتؤسس بذلك واحدة من أوسع عمليات النهب المالي المنظّم، بحق المواطنين وقطاعات الأعمال.
ويقول أحد التجار في صنعاء لموقع “الحل نت”، فضل عدم الكشف عن اسمه لأسباب أمنية، “اقتحم مسلحو الحوثي متجري مطلع الشهر الماضي، وهددوني صراحة بالإغلاق والاعتقال إذا لم أدفع مبالغ باهظة، لدعم ما أسموه بالقوة الصاروخية والطيران المسير.
يضيف التاجر وعيونه تفيض بالقهر، “قالوا لي بالحرف الواحد: ادفع، وإلا نغلق المحل ونأخذك إلى مكان لن تعود منه أبدا، هذه ليست جبايات بل بلطجة علنية تُمارس علينا يومياً باسم الزكاة أو دعم الجبهات، بينما نكافح بالكاد لتأمين قوت أسرنا، وسط ركود خانق وغياب تام لأي حماية لنا”.
وبحسب تقارير محلية وأممية، فقد فرضت الجماعة أكثر من 49 نوعاً من الجبايات على التجار والقطاعات الخدمية، بما في ذلك رسوم باهظة مقابل التصاريح، ابتزاز عبر جهاز المواصفات والمقاييس، و”تبرعات” لصالح ما يسمى “المجهود الحربي”، بلغت في بعض الأشهر، ما يفوق إيرادات الدولة قبل الانقلاب.
وفي السياق، يؤكد الخبير الاقتصادي، وفيق صالح، بأن جماعة “الحوثي” أخضعت المؤسسات الحكومية الحيوية، وسيطرت على إيرادات الجمارك والضرائب وسخّرتها لـ”المجهود الحربي”، دون أن تنفق شيئاً على المرتبات أو الخدمات العامة.
“الحوثي” يدير سوقاً سوداء لتجارة الأسلحة عبر “واتساب” و”إكس”.. ما القصة؟
يضيف الخبير اليمني، “كما أن الجماعة فرضت جبايات غير قانونية وإتاوات باهظة، على المواطنين والتجار والأنشطة الخاصة، في إطار منظومة جباية تقوم على الابتزاز والتخويف”.
وتحولت هذه الجبايات، إلى مصدر تمويل رئيسي للحرب “الحوثية”، وأسهمت في إغلاق آلاف المحلات والمنشآت، وتسببت بركود السوق، وانهيار القوة الشرائية، وتآكل الطبقة المتوسطة.
احتكار تجارة النفط وبيعه بالسوق السوداء
ومثّلت موانئ الحديدة والصليف ورأس عيسى، الشريان الأهم لاقتصاد حرب جماع “الحوثي”، فرغم خضوعها لاتفاق ستوكهولم، استمرت الجماعة في تحصيل رسوم جمركية وضريبية غير قانونية، على السلع والمشتقات النفطية، بعائدات تتراوح بين 1.5 إلى 2 مليار دولار سنوياً.
أما تجارة المشتقات النفطية، فتمثل العصب المالي الأخطر للجماعة، إذ تسيطر على توريد واستيراد النفط والغاز، وتحصل على شحنات مجانية من إيران، تُباع بأسعار السوق، وتُحقق أرباحاً سنوية، تقدر بـ3 مليارات دولار.
كما تستخدم جماعة “الحوثي” السوق السوداء لافتعال الأزمات، ما أدى إلى ارتفاع أسعار الوقود بنسبة كبيرة، مقارنة بالمناطق الواقعة تحت سيطرة الحكومة الشرعية.
واحتكرت جماعة “الحوثي” تجارة المشتقات النفطية في مناطق سيطرتها، بعد أن دمّرت شركات النفط الرسمية، لصالح طبقة جديدة من “هوامير الحرب” المحسوبين عليها، والذين باتوا يتحكمون بمفاصل السوق والتجارة، ويحققون أرباحاً خيالية، على حد تعبير الخبير الاقتصادي، وفيق صالح.
الحارس القضائي وتدمير القطاع الخاص
ولم يتوقف النهب عند المال العام، بل توسّع ليطال ممتلكات وأموال خصوم الجماعة من السياسيين ورجال الأعمال، تحت ذريعة “الحارس القضائي”.
وفي هذا الشأن، يوضح الخبير الاقتصادي وفيق صالح بأن جماعة “الحوثي” استهدفت القطاع الخاص، حيث صادرت أكثر من 35 شركة كبيرة، وأصولاً بمليارات الدولارات، تحت ذريعة الحارس القضائي، وقدّر حجم هذه الأصول المصادرة حتى الآن بنحو 3 مليارات دولار.
وتُدار هذه الأصول اليوم كقطاع موازٍ، عبر موالين للجماعة، يعود نفعها لصالح “الحوثيين”، فيما يُحرم أصحابها الشرعيون من أبسط حقوقهم، حيث غدت هذه الشبكة أداة رئيسية لإثراء القيادات “الحوثية”، وتعزيز نفوذها المالي والعسكري.
موانئ يمنية في خدمة “الحوثي”
ويقوم اقتصاد جماعة “الحوثي” على نظام ولاء طبقي، حيث تُمنح الامتيازات الكبرى لأبناء السلالة الهاشمية، والقيادات المقرّبة من زعيم الجماعة عبد الملك “الحوثي”، في حين يتم إقصاء الأخرين.
وتنشط شبكات مالية موازية تابعة لشخصيات نافذة كعبد الكريم “الحوثي”، ومحمد علي “الحوثي”، وأحمد حامد، والتي تدير عشرات الشركات في مجالات النفط، والاتصالات، والاستيراد، والصرافة، دون حسيب أو رقيب.
وتقوم هذه الشبكات بعمليات غسيل أموال، وتهريب عبر واجهات تجارية وهمية، حيث تستخدم الأموال المتحصلة لشراء العقارات في الداخل والخارج، وتمويل هجمات إرهابية داخل وخارج اليمن، بما فيها تهديد الملاحة في البحر الأحمر.
تدمير “حوثي” ممنهج للقطاع الخاص
ولم يقتصر أثر الانقلاب الاقتصادي “الحوثي” على النهب فقط، بل أدى إلى تدمير ممنهج للقطاع الخاص، الذي كان يشغّل مئات الآلاف من اليمنيين، فبسبب الضرائب المضاعفة، والمضايقات الأمنية، والاستحواذ على الأسواق، أغلقت الكثير من الشركات أبوابها، وانهار الإنتاج المحلي، وتوقفت سلاسل التوريد.
وفي المقابل، صعدت طبقة جديدة من “هوامير” الحرب، جميعهم من الموالين للجماعة، مستفيدين من التسهيلات الحصرية، والامتيازات غير القانونية، ليحتكروا التجارة والخدمات ويُحوّلوا اقتصاد البلاد إلى شركة خاصة بالسلالة.
وبالاستناد إلى سلسلة “الاقتصاد الموازي” التي ينشرها وزير الإعلام اليمني معمر الإرياني، على صفحته بمنصة “إكس“، فإن جماعة “الحوثي” تواصل تجريف الاقتصاد الوطني وتحويله إلى غنيمة حرب تقتسمها قياداتها ومشرفوها تحت غطاء شعارات زائفة.
يؤكد الإرياني، بأن ما نشهده منذ 2014، هو عملية ممنهجة لنهب موارد الدولة وممتلكات المواطنين، وإحلال اقتصاد موازٍ قائم على الجباية والإتاوات ومصادرة الأصول، من أجل تمويل آلة الحرب “الحوثية” وتوسيع النفوذ السلالي.
عملة بلا غطاء ولا شرعية.. أين طبع “الحوثي” أوراقه النقدية الجديدة؟
ويشير الوزير اليمني، إلى أن جماعة “الحوثي” نهبت أكثر من 20 مليار دولار من أموال الدولة والشعب، وفرضت منظومة فساد تبدأ من ميناء الحديدة، وتمر بشبكات تهريب النفط والسلاح، وتنتهي بجيوب قادة الجماعة.
سبل تجفيف موارد “الحوثي”
ويتطلب وقف هذا العبث “الحوثي”، الذي دمر الاقتصاد اليمني، تدخلاً دولياً حازماً، يبدأ بتشديد الرقابة على الموانئ، وإيقاف تهريب الوقود والأسلحة، وتجفيف مصادر التمويل غير المشروع، وإدراج شبكات “الحوثي” المالية ضمن قوائم العقوبات، ودعم جهود الحكومة الشرعية لاستعادة الدولة والأموال المنهوبة.
وإجمالا، فإن ما يحدث في مناطق سيطرة جماعة “الحوثي” لم يعد مجرد عبث اقتصادي عابر، بل هو مشروع منظّم لتجريف مؤسسات الدولة، وتحويل اليمن إلى إقطاعية مالية مغلقة بيد قلة تنتمي للسلالة “الحوثية”.
ولم تعد الحرب وسيلة للسيطرة فحسب، بل غطاء لشرعنة اقتصاد موازِ قائم على النهب والجبايات والاحتكار، ليبقى السؤال مفتوحاً: هل يمكن إنقاذ الاقتصاد اليمني، دون تفكيك منظومة “هوامير” السلالة، الذين جعلوا من معاناة ملايين اليمنيين، غنيمة حرب دائمة؟
التصنيف :
تقارير