د. علي العسلي
في اللحظة التي غمرت فيها مشاعر الأمل والفرح شريحة واسعة من اليمنيين، بفعل التحسن الذي طال انتظاره في قيمة الريال أمام العملات الأجنبية، خرجت مجموعة هائل سعيد أنعم وشركاه ببيان أربك المزاج الشعبي، واصطدم مباشرة بحالة التفاؤل الوليدة.
ولم يكن الاصطدام بسبب مضمون البيان فحسب، بل أيضًا لتوقيته المربك، ونبرته القلقة، وتجاهله لحقائق موازية عايشها اليمنيون خلال سنوات الانهيار العاصف.
فلنضع الأمور في سياقها أولًا...
مجموعة بحجم وطن... لكن؟
لا خلاف أن مجموعة هائل سعيد أنعم تُعد من أعمدة الاقتصاد الوطني الراسخة، بل يمكن القول إنها، في محطات فاصلة من تاريخ اليمن الحديث، قامت بأدوار تكاد تُوازي أدوار الدولة نفسها؛ فقد ملأت فراغ المؤسسات في تقديم الخدمات الأساسية، وبذلت مساعدات إنسانية في أحلك الظروف، وشكّلت صمّام أمان حقيقي في تموين الأسواق وتوفير الدواء والغذاء لملايين اليمنيين.
يشهد لها بذلك اليمنيون في الحضر والريف، في الجنوب والشمال، شرقًا وغربًا. وهي شهادة لا ينكرها إلا جاحد، ولا يُسقطها الغضب اللحظي أو التباين في وجهات النظر.
لكن، بالمقابل، كان من المنتظر من مجموعة بهذا الثقل الوطني أن تُحسن اختيار اللحظة، وأن تُظهر دعمًا واضحًا للجهود الحكومية في ضبط السوق، وأن تواكب نبض الناس لا أن تبدو ـ ولو عن غير قصد ـ وكأنها تضع العراقيل في طريق التحسن البطيء، أو تُربك حالة الثقة المتصاعدة.
الريال لا ينهار وحده... فلنرافقه في نهوضه!
طوال سنوات، شهد الريال اليمني في مناطق الشرعية انهيارًا مريعًا، تجاوزت فيه قيمة الريال السعودي حاجز الـ 750 ريالًا يمنيًا. لم نسمع حينها بيانات عاجلة من المجموعة تحذر من "اضطرابات تموينية"، أو تسائل الجهات المختصة عن سبب الانهيار، أو تعلن عن تضامنها مع المواطن الذي طحنه الغلاء.
واليوم، حين بدأ الريال يستعيد جزءًا من قيمته، ولو مؤقتًا، وبدأ المواطن يلتقط أنفاسه بعد سنوات من الإحباط، جاء بيان المجموعة ليذكّره بأن هذا الأمل قد يكون عابرًا، وأن القطاع الخاص مهدد بالإفلاس، وأن الاستقرار هشّ. وكأن الرسالة ـ وإن لم تُقَل صراحة ـ هي: "لا تفرحوا كثيرًا".
وقد جاء هذا التحسن النسبي في سعر الصرف نتيجة لإجراءات حكومية تمويلية وتنظيمية طارئة، وضخ محدود للعملات الأجنبية عبر أدوات من البنك المركزي ومصادر دولية، إضافة إلى حملات صارمة ضد المضاربة بالسوق السوداء.
الريال، كما يسقط بأسباب، ينتعش بأسباب أيضًا. ومن غير المنصف مصادرة الأمل تحت ذريعة الخشية من المجهول.
ازدواجية النقد... لماذا غاب الصوت في صنعاء؟
الأهم من ذلك كله، هو الصمت الطويل الذي التزمته المجموعة – وغيرها من كبريات الشركات – إزاء ما فعله الحوثيون بها وبأموالها ومصانعها وتجارتها وبنوكها، بل وبالاقتصاد الوطني بأكمله.
لم نقرأ لها بيانًا واحدًا ينتقد تعدد الجمارك، أو الضرائب المجحفة، أو تجميد الودائع ثم مصادرتها بقوانين غير شرعية.
لم تعترض على الإتاوات المفروضة في كل نقطة عبور، ولا على القيود التي كبلت حركة المال والتجارة.
ولم تُبدِ أي موقف من تثبيت سعر صرف الريال بشكل وهمي في مناطق الحوثيين، رغم علمها التام أن هذا السعر لا يعكس أي واقع اقتصادي، بل هو نتاج قمع السوق وتجميد الحركة النقدية.
فلماذا هذا البيان الآن؟ ولماذا لم يصدر حين كانت المخاطر أشد، والكلفة أفدح، والسكوت أكثر خطورة؟!
القطاع الخاص... شريك لا خصم
نحن لا ننتقص من دور المجموعة، بل نُشيد به، وندعو إلى تعزيزه في هذه المرحلة الحرجة.
لكننا نأمل أن تعيد المجموعة – بما تمثله من وزن اقتصادي وثقة مجتمعية – النظر في خطابها الإعلامي، بحيث لا يظهر وكأنه يُعبّر عن قلق على الأرباح أكثر من قلقه على المواطن.
فمن الحكمة – بل من الواجب – أن تواكب الشركات الرائدة التوجه الوطني، لا أن تقف منه موقف المراقب أو المتحفظ.
نُدرك تمامًا خشية المجموعة من القفزات غير المدروسة، لكننا نؤمن أن دعم الحكومة، في هذه اللحظة الحساسة، هو الخيار الأسلم، وأن لا تعارض بين مراعاة التكاليف والحرص على المستهلك، بشرط الشفافية والتنسيق والحوار.
دعوة لإعادة التموضع... والخطاب
إذا كانت المجموعة ـ وغيرها من الفاعلين الاقتصاديين ـ حريصة فعلًا على استقرار السوق، فإن من مسؤوليتها المساهمة في بناء الثقة بالاقتصاد الوطني، لا بث رسائل تُفسر على أنها تشكيك قد يُستغل لزعزعة الاستقرار من جديد.
ونحن على يقين أن من بنى إمبراطورية اقتصادية وطنية بهذا الحجم، يدرك تمامًا أن دوره اليوم لا يقتصر على بيع السلعة، بل يتعداه إلى دعم السيادة، واستعادة توازن الريال، بقواعد السوق لا بهيمنة السوق.
كلمة أخيرة...
نحيي كل من يساهم في بقاء اليمن واقفًا، ونخص بالشكر مجموعة هائل سعيد أنعم على سجلها الوطني الطويل، لكننا نأمل أن يكون البيان القادم أقرب إلى الناس، وأشد دعمًا للدولة، وأكثر شجاعة في نقد الانحراف أينما كان، سواء في عدن أو صنعاء.
فالاقتصاد لا يصح بالصمت في زمن الانهيار،
ولا بالصوت المرتفع في زمن الانتعاش.
والله من وراء القصد.
التصنيف :
كتابات واراء