د. علي العسلي
في بلدٍ أنهكته الحرب، وتوزّعت فيه السلطات، لم تعد المقارنات رفاهية تنظيرية، بل وسيلة للنجاة. فحين يتنازع "ناطقان" على عقول الناس ومشاعرهم؛ أحدهما بالبيانات الحربية المتكررة، والآخر بالقرارات الاقتصادية الهادئة، يصبح من حق المواطن أن يسأل: من يُنعشنا حقًا؟ من يُحدث فرقًا في حياتنا؟ من يحترم وعينا ويعاملنا كبشر نعيش على الأرض، لا كأرقام في نشرات الأخبار؟
نحن أمام يحيى سريع، الناطق العسكري باسم جماعة الحوثي، الذي لا تمر أيام دون بيان عاجل عن "استهداف الكيان الصهيوني لإدخال الناس هناك إلى الملاجئ ليس أكثر"، أو عن إغراق سفن تجارية في البحر الأحمر. وقد نصحو يومًا على خبر إغراق سفينة متجهة إلى الشواطئ اليمنية، لا إلى "الأرض المحتلة"، وكانت تحمل الغذاء والدواء والحبوب لليمنيين.
وفي المقابل، هناك أحمد غالب المعبقي، محافظ البنك المركزي اليمني في عدن، الذي يمثل صوت الحكومة الشرعية، ويُصدر قرارات وتعميمات تساعد على تحسين سعر الصرف وضبط السوق، من دون ضجيج أو شعارات.
فقد قرر حتى الآن سحب تراخيص 44 شركة ومنشأة وفرع صرافة لم تلتزم بالتعليمات. وأسفرت هذه الإجراءات عن خفض أسعار السلع والخدمات بنسبة تراوحت بين 20% و40%، وكانت النسبة الأعلى – أي 40% – من نصيب مجموعة شركات هائل سعيد أنعم، وعلى مستوى جميع منتجاتها المطروحة في السوق، والتي تعرّضت خلال الأربع والعشرين ساعة الماضية لحملة غير مسبوقة من الحقد والحسد، ومن أمراض العنصرية والمناطقية. كما شملت التخفيضات الحد الأدنى البالغ 20% في قطاع النقل.
فأيّ الناطقين أقرب إلى نبض الناس؟ وأيهما يستحق أن يُقال عنه: ناطق الوطن؟
يحيى سريع أصبح ظاهرة صوتية بامتياز؛ لا تنقصه الحماسة، ولا بياناته المفردات الرنانة: "ردع"، "إسناد فلسطيني"، "ضربات تأديبية"، "سفن إسرائيلية"، وأحيانًا "مدمرات أمريكية". لكنها بيانات لم تُسفر عن ضرر بليغ في البحر الأحمر، سوى على الاقتصاد اليمني والمصري والأردني. لم تُسجل حفرة واحدة في محيط مطار بن غوريون، ولم يُعلن عن قتيل أو حريق أو حتى عنوان واضح للهجوم. مجرد ذكر لـ"مواقع حساسة" باتت تجلب الحساسية لمن يسمعها!
تأتي بيانات سريع بمعدل شبه يومي، لكنها تُريح جمهورًا يعيش على أمل وهمي: أن الحوثي يواجه إسرائيل، وأن اليمن بات لاعبًا إقليميًا، وأن الفقر سببه "العدوان". لكن الحقيقة أن هذه البيانات لم توقف انهيار الريال في مناطق الحوثيين، ولم تُغنِ مواطنًا جائعًا، ولم تُطفئ أزمة المحروقات، ولم تُنهِ الجبايات على باعة الخضار في شوارع صنعاء، باسم "إسناد غزة المجروحة" دون أثر ملموس لأي إسناد.
في المقابل، يعمل أحمد غالب المعبقي مع فريقه بصمت؛ لا يُكثر من الظهور الإعلامي، ولا يُلقي خطبًا نارية، بل يُصدر تعميمًا مصرفيًا هنا، وإجراءً رقابيًا هناك، ويُغلق محلات المخالفين. وفي كل خطوة، يتحسن سعر الريال تدريجيًا في المناطق المحررة. المعبقي ليس سياسيًا شعبويًا، بل رجل اقتصاد يُجيد استخدام أدوات السياسة النقدية، متى ما توفرت الإرادة السياسية لدى صانع القرار والداعمين. إنه رجل يفهم حساسية السوق، ويوازن بين الإمكانات المحدودة والواقع الكارثي. وقد بدأ المواطن يلمس نتائج هذه السياسات على أسعار السلع المستوردة، فارتفعت معنوياته أكثر مما تفعله البيانات العسكرية.
المواطن في عدن وتعز والمكلا لا ينتظر بيانًا عاجلًا، بل تعميمًا ماليًا يُعيد الثقة بالبنوك، أو خبرًا عن صرف الرواتب، أو تداولًا لأخبار سارّة عن استمرار تخفيض أسعار السلع والخدمات، أو قرارًا يُقيّد المضاربات. بيانات يحيى سريع تُخاطب العاطفة، وتُشحن بطاقة أيديولوجية عالية، وهي أشبه بحبوبٍ مُسكّنة تُخدّر الوجدان، لكنها لا تُعالج الألم.
أما تعميمات المعبقي، التي بلغت 14 تعميمًا حتى يوم أمس، منذ انطلاق "ثورة الإصلاحات" لمعالجة الاختلالات ووقف العبث بالصرف وسعر الصرف، فهي تخاطب الواقع مباشرة، ولا تعد الشعب بالنصر على أمريكا، بل تمنحه ثقة تدريجية بأن الدولار لن يبتلع راتبه، وأن الأسعار قد تعود إلى حدودٍ معقولة.
الواقع يُظهر أن بيانات يحيى سريع، رغم كثافتها، لا تصنع أثرًا حقيقيًا في حياة الناس المعيشية. هي مجرد ضجيج تعبوي، يريح النفس لحظيًا، لكنه لا يترك أثرًا فعليًا. الداخل الحوثي يتآكل بفعل الجبايات والتجويع، و"البيان" موجّه نحو الخارج، لا الداخل.
ففي مناطق الحوثيين، لا يوجد استقرار مالي، ولا سياسة نقدية واضحة، ولا حتى خطة طوارئ لمواجهة التضخم.
في المقابل، يعمل المعبقي بمنهج إداري مدروس، وقد استطاع البنك المركزي في عدن استعادة جزء كبير من السيطرة على السياسة النقدية، وضبط عمليات المضاربة، ورفع مستوى الشفافية في القطاع المصرفي. وقد انعكس ذلك تدريجيًا على تحسن سعر الريال وثقة الناس بالبنوك. ذلك هو "الإنعاش الحقيقي"، لا الوهمي.
لا بأس أن يشعر الإنسان بالكرامة القومية، ولا عيب في مناصرة فلسطين، لكن حين تتحول المعركة الإعلامية إلى ستار يُخفي وراءه التجويع والتسلط والنهب، وتُستخدم القضية الفلسطينية ذريعة لفرض الضرائب على الفقراء باسم "الصمود"، فعلى الناس أن يُراجعوا منطقهم: من يُفيدك حقًا؟ من يصرخ من صنعاء ضد إسرائيل؟ أم من يُحسن من عدن سعر الصرف؟
ليس المهم من يصرخ أكثر، بل من يُنجز أكثر. يحيى سريع يُمثّل الضجيج الأيديولوجي، وأحمد المعبقي يُمثّل العمل الإداري المنظم. سريع يمنحك نشرة أخبار بطولية كل مساء، والمعبقي يمنحك قيمة شرائية تحترم راتبك كل صباح.
المقارنة ليست ترفًا، بل ضرورة في زمن الخداع الكبير. اليمن بحاجة إلى ناطق يُنقذها من المجاعة، لا إلى ناطق يُزايد بالصواريخ. بحاجة إلى صوت العقل والقرار، لا إلى ضجيج الدعاية والانتصارات الوهمية.
فاختر ناطقك بعناية... هل تُفضّل من يُمنّيك بصاروخ وهمي على مطار اللد (بن غوريون)، أم من يمنحك ثقة بسعر صرف مستقر، وربما رغيفًا أرخص غدًا؟
التصنيف :
كتابات واراء