البنوك والأسواق في خدمة المناخ: نحو تمويل مستدام في الإمارات:


ياسمين السيد

في ظل التحولات العالمية نحو الاقتصاد الأخضر، لم تعد الاستدامة خيارًا مكلفًا بل ضرورة لبقاء الأعمال واستمرار النمو. وفي قمة فوربس الشرق الأوسط لقادة الاستدامة، جمعت جلسة عن التمويل المتوافق مع تحديات المناخ، نخبة من قيادات الحكومة والقطاع المالي، لمناقشة كيف يمكن لرأس المال أن يصبح قوة فاعلة في تمويل الابتكار والشمول والتحول الأخضر.

التكامل بين النمو والحياد المناخي

تتبنّى الإمارات نموذجًا متوازنًا يجمع بين النمو الاقتصادي والحياد المناخي، عبر شراكة وثيقة بين الحكومة والقطاع المصرفي. توضح الوكيلة المساعدة لقطاع التنمية الخضراء وتغيّر المناخ في وزارة التغير المناخي والبيئة د. العنود عبد الله الحاج العلي، أن المصارف كانت من أبرز الداعمين لمسيرة الاستدامة في الدولة، وبادرت بإطلاق صناديق ومبادرات للتمويل المستدام قبل استضافة مؤتمر COP28. وأن البنوك عرضت خلال مؤتمر "الاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة" مشاريع في الزراعة والمياه، ما يعكس اتساع مفهوم الشمول في منظومة الاستدامة.

وتؤكد الحاج العلي على أهمية المؤسسات الصغيرة والمتوسطة وبرامج مثل Wiser Pioneers، ومبادرات الابتكار المناخي مثل Hub71 وClimate Tech وClimate Tribe، التي تبني منظومة وطنية للتحول منخفض الانبعاثات يكون فيها القطاع المالي شريكًا محوريًا. وتضيف الحاج العلي أن المرحلة المقبلة تتطلب الحفاظ على الزخم وتعزيز أثر المشاريع القائمة عبر التناغم بين القطاعين العام والخاص.

وتعمل الإمارات على توحيد تعريفات التمويل المناخي وتحديد المشاريع ذات الأثر الأكبر وقياس نتائجها لضمان السير في الاتجاه الصحيح نحو الحياد الكربوني بحلول عام 2050، تحقيقًا لهدف واحد: تحسين جودة الحياة وترك بيئة مستدامة للأجيال القادمة.

الشفافية وقود التمويل الأخضر
تمثل الأسواق المالية محركًا رئيسيًا لتعبئة رأس المال نحو المشاريع المستدامة. 

وفي هذا الإطار يوضح الرئيس التنفيذي للاستراتيجية والتحول في سوق أبوظبي للأوراق المالية، ماتياس بوشلر، أن السوق بدأ منذ عام 2019 إلزام الشركات المدرجة بنشر تقارير الإفصاح عن الاستدامة وفق 31 مؤشرًا سنويًا. ويضيف أن نهج السوق يقوم على تحريك رؤوس الأموال فعليًا من خلال إدراج أدوات تمويل خضراء وصكوك مستدامة. 

ويشير بوشلر إلى الطلب القوي على أدوات التمويل الأخضر، وإلى ثقة المستثمرين في مسار التحول الأخضر في دولة الإمارات، إذ شهد سوق أبوظبي 14 إدراجًا للصكوك بقيمة 4 مليارات دولار، غُطيت اكتتاباتها تسع مرات.

ويشدد بوشلر أن مكافحة ما يُعرف بـ"الغسل الأخضر" تتطلب وجود تصنيف موحد وبيانات دقيقة ومحدثة، وأن المستثمرين اليوم يبحثون عن معلومات آنية تكشف الاتجاهات المستقبلية واستراتيجيات الشركات، لا عن تقارير سنوية تعكس الأداء الماضي فقط.

ويؤكد بوشلر أن الشفافية أولوية قصوى، وأن الإمارات تعمل على مواءمة تصنيفاتها مع المعايير العالمية بما يتيح للمستثمرين محليًا ودوليا فهم سياسات الإفصاح البيئي، والاجتماعي والحوكمة بسهولة ودقة.

التمويل المستدام يبدأ بالتعريف والقياس

يلعب القطاع المصرفي دورًا محوريًا في مسيرة التحول الأخضر وتمويل المشاريع المستدامة في الإمارات. ويؤكد رئيس مكتب إدارة المشاريع المؤسسية وإدارة المسؤولية المجتمعية والحوكمة في مصرف عجمان، زهيب علي زاهد، أن البنوك الإماراتية أصبحت شريكًا رئيسيًا في تحقيق أهداف الحياد المناخي، مشيرًا إلى الالتزام الجماعي الذي أُعلن خلال مؤتمر COP28 لتعبئة تريليون درهم من التمويل المستدام بحلول عام 2030. وفي هذا الإطار، خصص بنك عجمان 4 مليارات درهم لدعم هذا النوع من التمويل، في مسار يستهدف الوصول إلى الحياد الصفري بحلول عام 2050.

ويرى علي زاهد أن مشهد الإقراض تغير جذريًا، إذ لم يعد تقييم العملاء يعتمد على الجدارة الائتمانية فقط، بل يشمل أيضًا بصمتهم البيئية وممارساتهم المستدامة. 

ويشير إلى أن الخطوة الأولى لقياس هذا الأثر تبدأ بتحديد معنى التمويل المستدام نفسه، مع ضرورة وجود تصنيف وطني موحد لتوحيد المعايير وقياس الأثر الحقيقي وتجنّب ما يُعرف بـ"الغسل الأخضر". 

ويضيف علي زاهد أن سد فجوة التمويل في القضايا المناخية يتطلب تعاونًا وثيقًا بين القطاعين العام والخاص، فالحكومات لا يمكنها القيام بكل الأعباء منفردة.

كما يشدد علي زاهد على أن الأثر الحقيقي للتمويل المستدام يجب أن يكون نتاجًا لمبادرات تحدث فرقًا ملموسًا في خفض الانبعاثات وتعزيز الشمول الاقتصادي والاجتماعي، مؤكدًا أن الإفصاح الشفاف هو حجر الأساس لضمان مصداقية هذا التحول.

التمويل الإسلامي بطبيعته مستدام

يجتمع التمويل الإسلامي والاستدامة على أرضية واحدة تقوم على القيم الأخلاقية والمنفعة الاجتماعية، وهو ما يجعل منه نموذجًا طبيعيًا للتمويل المستدام. 

يؤكد المدير التنفيذي للحوكمة والاستدامة في بيت التمويل الكويتي، محمد العربيد، أن أدوات التمويل الإسلامي مثل المرابحة والصكوك والمشاركة يمكن تكييفها لتخدم أهداف الاستدامة، مشيرًا إلى مبادرة "المرابحة الخضراء" التي أطلقتها المؤسسة لدعم العملاء الراغبين في بناء أو تجديد منازلهم باستخدام حلول صديقة للبيئة.

ويرى العربيد أن دور البنوك لا يجب أن يقتصر على التمويل التقليدي، بل أن يتطور لتصبح شريكًا استراتيجيًا يساعد العملاء في وضع أهداف استدامة حقيقية. 

ويشدد على أن قياس الأثر لا ينبغي أن يقتصر على المؤشرات المالية، بل يجب أن يستند إلى التقييم المزدوج الذي يوازن بين تأثير المؤسسات على المجتمع وتأثرها بالعوامل البيئية والاجتماعية.

وأضاف العربيد أن الاستدامة لا ينبغي أن تكون التزامًا شكليًا، بل أساسًا في استراتيجيات المؤسسات، ففي بيت التمويل الكويتي، يتم إشراك أصحاب المصلحة من مساهمين وموظفين وجهات حكومية ومنظمات مجتمع مدني في تصميم تلك الاستراتيجيات، إلى جانب الاستعانة بتقييمات مستقلة لضمان قياس موضوعي وشفاف للأثر.

ويؤكد العربيد في ختام حديثه أن الهدف النهائي هو تمكين الشركات الصغيرة والمتوسطة من التحول إلى كيانات مستدامة قادرة على دعم النمو الاقتصادي وتحسين جودة الحياة للأجيال القادمة.

في ختام الجلسة اتفق المشاركون على أن رأس المال المستدام هو حجر الأساس لأي تحول حقيقي نحو اقتصاد أخضر شامل، وشددوا على أن التمويل الأخضر لا ينجح دون شفافية في البيانات، ووضوح للمعايير، وتعاون فعلي بين الحكومة والقطاع الخاص والمصارف وأسواق المال، وأن الطريق إلى الحياد المناخي لا يُعبّد بالنيات الطيبة فقط، بل بالاستثمارات الذكية التي توازن بين النمو الاقتصادي وحماية الكوكب.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال