د. علي العسلي
منذ انقلاب الميليشيات الحوثية على الدولة في عام 2014، دخل اليمن مرحلةً مظلمةً عنوانها الكبير: الاختطاف — اختطاف الدولة، والمؤسسات، والإنسان.
فالميليشيا لم تكتفِ بالاستيلاء على الوزارات والمعسكرات والبنك المركزي وهيئة التأمينات، بل مارست أبشع أنواع الانتهاكات بحق البشر؛ فاختطفت الآلاف من المواطنين — من ناشطين وأكاديميين وصحفيين وتجار، وحتى نساء. بعضهم ما زالوا في غياهب السجون، وآخرون قضوا تحت التعذيب الوحشي.
الاختطاف.. سياسة ممنهجة لا استثناءات
لم يعد الاختطاف لدى الحوثيين تصرفًا فرديًا أو ممارسات عشوائية، بل أصبح سياسةً ممنهجة.
ولم يسلم منها حتى من ساندهم أو انضم إليهم من خارج السلالة؛ إذ يستفيدون منهم إلى أقصى حد، ثم يلقون بهم في السجون بتهمة "التخابر". وآخر هؤلاء كان الدكتور ياسر الحوري، أمين سر مجلسهم السياسي، وقد سبقه آخرون مثل حسن زيد وشرف الدين والمتوكل، الذين تمت تصفيتهم حين شعر "البيت الحوثي" بأن لهم طموحًا قد يهدد نفوذه.
الميليشيا تمارس الاعتقال التعسفي ضد كل من يعبّر عن رأي مخالف، حتى لو كان تعليقًا بسيطًا على وسائل التواصل الاجتماعي. بل تجاوزت ذلك إلى خطف النساء، وإقامة سجون سرّية في المنازل والمساجد والمقار الحكومية.
واليوم، يقبع آلاف المختطفين والمخفيين قسرًا في ظروفٍ مأساويةٍ، يعانون من التعذيب الجسدي والنفسي والإذلال، فقط لأنهم رفضوا الخضوع للمشروع الكهنوتي.
إنها جريمة بحق الإنسانية، وفق كل القوانين والأعراف الدولية، ولا يمكن لأي تسوية سياسية أن تستقيم ما لم يُفرج عن جميع المختطفين ويُعاد الاعتبار لهم ولأسرهم.
مأساة الرواتب المقطوعة
منذ أكثر من تسع سنوات، يعيش أكثر من مليون موظف حكومي في مناطق سيطرة الحوثيين بلا رواتب.
يُجبرون على العمل دون أجر، باستثناء بعض الفتات الذي يُمنح كحافز أو ربع راتب كل بضعة أشهر.
ملايين الأسر تُركت لمصيرها، فيما تواصل الميليشيا نهب الإيرادات العامة من ضرائب وجمارك واتصالات وزكاة ونفط، وحتى أموال البريد، فضلًا عن فرض جبايات جديدة مثل "الخُمس" و"المناسبات الدينية".
النتيجة أن المواطن يُعاقب مرارًا: مرة بالانقلاب، ومرة بحرمانه من راتبه، ومرة بارتفاع الأسعار ونهب موارده، وأخرى بالتجويع والإذلال.
والسؤال الذي يطرحه كل يمني اليوم هو: أين تذهب كل هذه التريليونات من الريالات التي تجنيها الميليشيا سنويًا؟
الجواب واضح: تذهب إلى جيوب القيادات الحوثية، وإلى تمويل آلة الحرب، وبناء إمبراطوريات تجارية لعائلة الحوثي والمقربين منها.
تشير التقديرات الرسمية إلى أن الحوثيين ينهبون أكثر من تريليوني ريال يمني سنويًا من الإيرادات العامة دون أن يُصرف منها ريال واحد كرواتب.
إنها جريمة اقتصادية مكتملة الأركان، لا تقل خطورة عن جرائم القتل، لأنها تقتل الإنسان جوعًا وقهرًا.
فيديو البريد... شاهد حيّ على الفساد
من أبرز الشواهد على هذا النهب الممنهج، الفيديو الذي نشره المهندس ريدان الرحبي، رئيس قسم الدعم الفني في الهيئة العامة للبريد، حيث كشف عن عمليات نهب منظم طالت مليارات من أموال المودعين والمواطنين.
وفي تسجيل مصوّر من داخل مقر عمله في صنعاء، أطلق الرحبي صرخة مدوّية ضد ما وصفه بـ"المافيا الحوثية" داخل الهيئة، مؤكدًا أن الفساد لم يعد مجرد تجاوزات إدارية، بل منظومة كاملة لنهب المال العام تحت غطاء مشاريع وهمية وصرفيات عبثية.
قال الرحبي: "هل نترك الهيئة تنهار؟ أم نتركها للفاسدين؟"
وأضاف أن حجم الفساد في الهيئة يتراوح بين خمسة إلى سبعة مليارات ريال، نُهبت عبر شيكات مزورة ومشاريع غير قانونية وصرفيات بلا رقابة، مشيرًا إلى تورط قيادات حوثية نافذة في عمليات الاستحواذ على الأموال وتحويلها إلى حسابات خاصة.
ذلك الفيديو كان صرخة ضمير، أثارت تفاعلًا واسعًا وأظهرت حجم السخط الشعبي، ودلّت على وعيٍ متنامٍ لدى الناس.
فالمؤسسة التي كانت رمزًا للخدمة العامة تحوّلت إلى مزرعة مالية خاصة لقيادات الميليشيا.
وما حدث في البريد ليس إلا نموذجًا لعشرات المؤسسات التي جرى تجريفها وسرقة مواردها علنًا.
بين الجريمة والواجب الوطني
منذ إعلان الهدنة الهشة عام 2022، لم تتوقف الميليشيا عن حربها الاقتصادية اليومية.
حوّلت الاقتصاد إلى سلاحٍ لإخضاع اليمنيين؛ فحرمتهم من الرواتب، ومنعت التوريدات، وفرضت الإتاوات، وسعت لفرض واقعٍ يقوم على الابتزاز والحرمان لتكريس الولاء بالقهر.
لكن رغم كل ذلك، فإن الوعي الشعبي يتنامى، والمواطن بات يدرك أن معركته اليوم ليست عسكرية فقط، بل معركة وعي وحقوق وكرامة.
إن فضح هذه الممارسات لم يعد خيارًا، بل واجبًا وطنيًا وأخلاقيًا، لأن الصمت على الجريمة مشاركة فيها.
رسائل أخيرة
إلى مجلس القيادة الرئاسي
أيها السادة في مجلس القيادة،
ها أنتم لليوم الرابع على التوالي تعقدون اجتماعاتكم بحثًا عن وسيلة تفي بالتزاماتكم تجاه الشعب، وفي مقدمتها دفع الرواتب وتوفير الخدمات الأساسية.
وأقولها بوضوح: المسألة ليست معقدة، بل تحتاج إلى إرادة صادقة وقرار حاسم.
لقد أعلنتم أن هذا العام سيكون عام الحسم والخلاص الوطني، وها هو يوشك على الانتهاء، فيما لا يزال الشعب ينتظر لحظة القرار.
إن قرار التحرير هو المنقذ الحقيقي للوطن،
فالرواتب مسؤوليتكم، والثروات واجب استعادتها من أيدي العابثين لا التسليم بها لهم.
أجزم أنه خلال شهرٍ واحدٍ من استكمال التحرير، يمكنكم تصدير النفط والغاز، وتحصيل العائدات، ودفع الرواتب، وتوفير الخدمات، وإطلاق الإعمار من جديد.
إلى دول الإقليم وإلى المجتمع الدولي والأمم المتحدة والقوى الوطنية
لا يمكن أن يكون هناك سلام حقيقي في ظل اختطاف الإنسان.
ولا يمكن بناء دولة من خلال إشراك ميليشيات تُرهب الشعب وتنهب المال العام.
ولا يمكن الحديث عن سلامٍ دائم دون عدالة اقتصادية وإنسانية تضمن كرامة اليمنيين.
على العالم أن يدرك أن قيادات الحوثي تُخفي البشر، وتنهب المال العام، وتقتل الحياة اليومية في اليمن، وأن أي تساهل مع هذه الممارسات لن يجلب سلامًا، بل يُكرّس واقعًا من الظلم والانقسام.
المطلوب اليوم موقفٌ وطني ودولي شجاع يقوم على:
• الإفراج الفوري عن جميع المختطفين والمخفيين قسرًا.
• إعادة صرف رواتب الموظفين دون قيد أو شرط.
• إعادة مؤسسات الدولة المنهوبة إلى سلطتها الشرعية.
ختامًا...
اليمنيون يستحقون حياة كريمة في ظل دولة مدنية عادلة، لا تحت رحمة الميليشيات.
لقد قدّموا تضحيات عظيمة في سبيل الحرية والكرامة، ومن واجبنا أن نكون أوفياء لتلك التضحيات قولًا وعملاً، بالكلمة الصادقة والموقف الوطني الشجاع.
ولعل ما نشره موظف البريد، وما كشفه اليمنيون من صورٍ للنهب والاختطاف، سيكون الشرارة التي تُعيد للعالم وعيه، وتُذكّره بأن السكوت على الجريمة مشاركة فيها، وأن اليمن — رغم الألم — ما يزال حيًّا بشعبه الحرّ، ينتظر فجر الدولة والعدالة والكرامة.
وشكرًا لقناة عدن الفضائية على دورها الوطني في كشف الحقيقة والدفاع عن صوت اليمنيين.
التصنيف :
كتابات واراء